نشأ أبو بكر الصديق وترعرع في مكة، وكان من رؤساء قريش وأشرافها في
الجاهلية، محبباً فيهم، مألفاً لهم، وكان إليه الأشناق في الجاهلية، والأشناق هي
الدِّيات، وكان إذا حمل شيئاً صدَّقته قريش وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه، وإن
احتملها غيرُه خذلوه ولم يصدقوه .
ويُقال أن
الشرف في قريش في الجاهلية كان قد انتهى إلى عشرة رهط من عشرة أبطن، منهم العباس بن عبد المطلب من بني هاشم، وأبو سفيان بن حرب من بني أمية، وعثمان بن طلحة بن زمعة بن الأسود من بني أسد، وأبو بكر من بني تيم، وخالد بن الوليد من بني مخزوم، وعمر بن الخطاب من بني عدي، وصفوان بن أمية من بني جمح، وغيرهم .
وقد اشتهر أبو بكر الصديق في الجاهلية بصفات عدة، منها العلم بالأنساب، فقد كان عالماً من علماء
الأنساب وأخبار العرب، وله في ذلك باعٌ طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين كعقيل بن أبي طالب وجبير بن مطعم وغيرهما، وكانت له صفة حببته إلى قلوب العرب، وهي أنه لم
يكن يعيب الأنساب، ولا يذكر المثالب بخلاف غيره،وقد كان أبو بكر أنسبَ قريش لقريش
وأعلمَ قريش بها وبما فيها من خير وشر،وقد رُوي أن النبي محمداً قال :
(إن أبا بكر أعلمُ قريش بأنسابها)
وقد كان أبو بكر الصديق تاجراً، قال :
)ابن كثير وكان رجلاً تاجراً ذا خُلُق ومعروف، وكان رجالُ قومه يأتونه
ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته( وقد
ارتحل أبو بكر للتجارة بين البلدان حتى وصل بصرى من أرض الشام، وكان رأس ماله أربعين ألف درهم، وكان ينفق من
ماله بسخاء وكرم عُرف به في الجاهلية.
ويروى أن أبا بكر الصديق قد رأى رؤيا عندما كان في الشام، فقصها على بحيرى الراهب، فقال له: «من أين أنت؟» قال: «من مكة»، قال:
«من أيها؟» قال: «من قريش»، قال: «فأي شيء أنت؟» قال: «تاجر»،
قال: إن
صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأَسرَّ أبو بكر ذلك في نفسه.
ويقال أن أبا بكر الصديق لم يكن يشرب الخمر في الجاهلية، فقد حرمها على نفسه قبل الإسلام، وكان من أعف
الناس في الجاهلية، قالت السيدة عائشة حرم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا في
إسلام، وذلك أنه مر برجل سكران يضع يده في العذرة، ويدنيها من فيه، فإذا وجد ريحها
صرفها عنه، فقال أبو بكر: إن هذا لا يدري ما يصنع، وهو يجد ريحها فحماها
وقد سأل أحدُ
الناس أبا بكر: «هل شربت الخمر في الجاهلية؟»، فقال:
«أعوذ بالله»، فقيل:
«ولمَ؟» قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ
مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعاً لعرضه ومروءته .
كما رُوي أن أبا بكر الصديق لم يسجد لصنم قط، فقد قال أبو بكر في مجمع من الصحابة: ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي، فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي:
«هذه آلهتُك الشمُّ العوالي»، وخلاني وذهب،
فدنوت من الصنم وقلت: «إني جائع فأطعمني» فلم يجبني، فقلت: «إني عار فاكسني» فلم
يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه»
كان إسلام أبي بكر الصديق وليد رحلة طويلة في البحث عن الدين الذي يراه
الحق، والذي ينسجم برأيه مع الفطرة السليمة ويلبي رغباتها، فقد كان بحكم عمله التجاري
كثير الأسفار، قطع الفيافي والصحاري، والمدن والقرى في الجزيرة العربية، وتنقل من
شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقاً بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية ، وقد حدث أبو بكر عن ذلك فقال: كنت جالساً
بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نفيل قاعداً، فمر أمية بن أبي الصلت، فقال:
«كيف أصبحت يا باغي الخير »، قال: «بخير»، قال: «وهل وجدت؟»، قال: «لا»
|
كل دين يوم القيامة إلا ما مضى في الحنيفية بورُ
أما إن هذا النبي الذي يُنتظر منا أو منكم،
يقول أبو بكر: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويُبعث، فخرجت أريد ورقة بن
نوفل، وكان كثير النظر إلى السماء
كثير همهمة الصدر، فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: «نعم يا ابن أخي، إنا
أهلُ الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم
بالنسب- وقومك أوسط العرب نسباً»، قلت:
«يا عم، وما يقول النبي؟»،
قال: «يقول ما قيل له، إلا أنه لا يظلم ولا يظلم ولا يظالم»، فلما بُعث رسول الله
آمنت به وصدقته .
وقد كان أبو بكر الصديق يَعرف النبي صلى الله
عليه وسلم معرفة عميقة في الجاهلية، وكانت
الصلة بينهما قوية، وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه كان صاحب النبي
قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته
وحسن سجيته وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الناس.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا بكر الصدِّيق لقي رسول الله
فقال: «أحق ما تقول قريش يا محمد؟ مِن تركك آلهتنا، وتسفيهك
عقولنا، وتكفيرك آبائنا؟»، فقال رسول الله
: «بلى، إني رسول الله
ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا
بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته»، وقرأ عليه القرآن، فلم
يقر ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر
وهو مؤمن مصدق .
وقد روي عن
النبي محمد أنه قال: ما
دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين
ذكرته، ولا تردد فيه.
»كما روي عن
النبي أنه قال: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني
بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين.
:
التاريخ